كان النبيّ ﷺ، ذلك النور الإلهي، الذي تجلّت فيه جميع كمالات الأخلاق، كما وصفه الله سبحانه وتعالى في قوله ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، ، فما من صفةٍ جليلةٍ إلا وكان ﷺ أتمَّها وأكملها في تعامله مع الناس. لقد أُوتِيَ في خلقه ما لا يُدركه أحد، إلا أولئك الذين أذابتهم محبته، فذابت فيهم حُسن تعاملاته.
أما مع أهل بيته، فقد كان النبيُّ ﷺ أروع قدوة للرفق والرحمة، حيث كان الخلق العظيم الذي اتّصف به أظهر من أيّ وصفٍ آخر. يلاطف الكبير والصغير، ويُكرم كلَّ نفسٍ ويشملها بلطفه، فما كان يطلب من أحدٍ أن يعينه في أموره وهو قادر على ذلك بنفسه. كان يُخيِّط نعله ويرقِّع ثوبه، فلا يرى في ذلك نقصًا في مقامه، بل كان ﷺ يرى في خدمة أهله قمة العزّة. ولا عجب، فها هو ينادي على عائشة -رضي الله عنها- قائلاً: “يا عائِشَ هذا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ”، محبَّته تفيض حتى في لحظات عابرة، ويظهر منها محبته لها حتى في أبسط الكلمات.
كان ﷺ يبتسم في وجه زوجاته، ويداعبهنّ ويُسابقهنّ، فماذا أجمل من أن يشارك الرجل عيشه بهذا الشكل؟ هل هناك أسمى من أن يتحمّل المسؤولية في بيته، وهو لا يُغضب إلا إذا انتهكت حُرمةٌ لله؟ كان يعيش الحياة بمعاملةٍ صافية، بلا تكلّف، ولا عُجب. إنّما كان الحُبّ هو ميزانه، فكان لا يعترض على طعامٍ ما لم يعجبه، بل يتركه دون أن يعيب عليه، فإنّه كان يرى في عدم إغضاب النفس خلقًا عظيمًا.
أما مع أصحابه رض الله عنهم، فكان النبي ﷺ مثالاً في الأخوّة والرحمة. كان إذا أصابهم خطأ، يُعفِيهم ويتجاوز عنهم، لا يُعاقبهم، بل يدعوهم دوماً إلى التوبة، ويشاورهم في أموره، فما كان ليتخذ قرارًا إلا وكان معهم، يعزِّزهم بكلماتٍ تقوي عزائمهم وتدفعهم نحو النصر. كان يفتح لهم أبواب الأمل، ويبثُّ فيهم طاقةً لا تُحصى، وها هو ﷺ يُذكّرهم دائمًا بأن النصر قادم، وأن في صبرهم خيرًا عظيمًا.
كان من أروع ما في تعامله مع الناس أنه لا يُحبُّ المدحَ في نفسه، ولا يُجامل في صفاته، بل كان همه أن يُؤثّر في القلوب لا بالأفعال فقط، بل بجمال روحه، وعظمة معاملاته. فلك أن تتخيّل قلبًا مليئًا بحبِّه، كيف لا تذوب فيه القلوب، وكيف لا يقتدي به المؤمنون الصادقون؟
فالنبيُّ ﷺ كان مثالًا حيًّا للكمال البشري، الذي جمع في تعامله مع كل مَن حوله بين العظمة في الخلق، والتواضع في الفعل، فبدا ذلك تجسيدًا حيًّا للمحبة الإلهية، التي أضاءت الارض كلّها. فكان إنسانًا في قلبه، ملكًا في سلوكه، نبيًّا في رسالته.
تعامل النبي ﷺ مع الأطفال: كيف لا يكون حُبّ الأطفال في قلب النبي ﷺ، وهو الذي جاء رحمةً للعالمين؟! كان ﷺ في تعامله مع الأطفال قلبًا ينبض بالحنان، وروحًا تشعُّ بالرفق واللطف، فكان ﷺ أرحم الناس على عيالهم، وألينهم على أطفالهم، حتى ظنَّ الصحابة أنهم كانوا أكثر من آبائهم في رعايتهم.
كان ابنُه إبراهيم وحفيداه الحسن والحسين شَمسَين في قلبه، يُقبّلهم ويُعانقهم في كلّ لحظة، بل يُظهر عليهم من حُبّه ما لا يُمكن وصفه، فإنّ أنس بن مالك رضي الله عنه يُخبرنا عن هذه المشاهد التي ما كان لها مثيل في عصور البشر، فيقول: “ما رَأَيْتُ أَحَدًا كانَ أَرْحَمَ بالعِيَالِ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ”، هذا رسولُ الله ﷺ، لا يتوانى عن إظهار مشاعره تجاه أبناءه وأحفاده، فلا يكتفي فقط بكلمات الطيّب، بل يثبتها في كلّ لحظة من أفعاله. فكان يحملهما بين يديه، يقبّلها ويحتويها، كأنّه نهرٌ يتدفّق من حُبٍ لا ينضب.
ألم تر كيف كان ﷺ يُراعي مشاعر الأطفال بل ويتفهّم عقولهم الصغيرة؟! ففي تلك اللحظات عندما كان يقف للصلاة، كان يحمل أمامة بنت أبي العاص، ويضعها إلى جانبه، فإذا أراد الركوع والسجود، كان يحنو عليها كأنّه يرعاها في عالمٍ آخر. وكان يُدرك أن الأطفال لم يبلُغوا بعد فكرَ الكبار، فلا يغضب ولا يشتدّ في تذكيرهم بالواجبات، بل كان يُطيل السجود عندما يراهما يلعبان على ظهره، مُقدّمًا لهما فسحةَ اللعب التي هما في أمسّ الحاجة إليها. وفي ذلك كرمٌ من الله ورحمةٌ غامرة، يعلّمنا كيف نكون حُبّين وعطوفين تجاه الصغار، لأنهم فتاتُ البراءة، ونسائم الطفولة.
ثم يأتي الموقف الأعظم، عندما كان ﷺ على المنبر يخطب بالناس، إذ جاء الحسن عليه السلام، فصعد على المنبر وهو في حالةٍ من العفويّة، وأخذَه ﷺ في حضنه وقال: “إن ابني هذا سَيَّدٌ، وإني لأرجو أن يُصْلِحَ اللهُ به بين فئتين مِن أمتي”. في هذا الكلام، لا ترى إلا قمة العطف والإحسان، بل فيه إشادةٌ بأنّ الصغار يمكن أن يكون لهم أثرٌ عظيم في الأمة، ويُحسنون بين الفئات المتنازعة، في حين أن قلب النبي ﷺ كان في كل لحظة يُعبّر عن رحمته وتوقيره للأطفال.
إنّ قلب رسول الله ﷺ كان بمثابة مرجعية عظيمة لأخلاقه، ولطفه، ورؤيته الحكيمة في كل تعامل مع الناس، وفي حُبّه لأطفاله وأحفاده، لم يكن الرفق مع الصغار مجرد تصرف عابر، بل كان جزءًا من رسالته التي شملت كل جوانب الحياة.
تعامله ﷺ مع المسيء:
كان ﷺ في تعامله مع المسيء أسمى من أن يُمكّنَ نفسه من الانتقام، حتى وإن كان في مقدوره أن يُظهر قوته ويُحقِّق الحقَّ. بل كان ﷺ أرحم وأوسع قلبًا من أن يُسرف في رد الإساءة بالإساءة. وهذا ما ظهر جليًّا في تلك اللحظة التي جاء فيها الرجلُ يتقاضى دينه من النبي ﷺ، ويغلظ في القول. فماذا كان ردُّ فعل الحبيب ﷺ؟
كان الصحابة رضي الله عنهم من حوله مشدوهين، يترقبون منه أن يُعنف الرجل أو يُهدده، ولكن النبيَّ ﷺ أشار إليهم بلطفٍ وحكمة قائلاً: “دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً”. هنا لم يتسرع ﷺ في الرد، بل ترك الرجل ليُطالب بحقّه، مُظهرًا تعاطفه مع حقه، ورؤيته للظروف التي تجعله يعلو في صوته، وهو يطلب حقه الذي أُخذ منه. وهذا يعكس احترامه الشديد للعدالة، واهتمامه بالحقوق، حتى وإن كان المسيء هو من تصرّف بشكل قاسٍ أو غليظ.
ثم جاء الجواب الذي يظهر أسمى معاني العظمة والتواضع، فقال ﷺ: “أَعْطُوهُ سِنًّا مِثلَ سِنِّه”، فكيف يتعامل النبي مع الإساءة؟ بأن يردها بمثيلها من الحق، بل يُحسن إلى صاحب الحق، ويعطيه ما هو أتمّ وأكمل مما طلب.
هذه هي معاملة النبي ﷺ، التي تجسد كمال العفو، وسعة الصدر، وبُعد النظر في أن يردّ الإساءة بما هو خيرٌ منها. وعندما قال الصحابة: “يا رسول الله، إلا أمثل من سنه؟” أي أنهم كانوا يرون أن الرجل قد يكون أحق بشيء أعظم وأثمن، فأجابهم ﷺ: “أعطوه، فإن من خياركم أحسنكم قضاء”. كانت هذه كلماتٌ عميقة، تذيب القلوب، وتبين لنا كيف أن أفضل الناس هو من يحسن القضاء، أي من يتعامل مع الحقوق بإنصافٍ ورقة، حتى وإن كان المسيء قد أغلظ في القول.
فكان في ذلك درسٌ للمؤمنين جميعًا في حسن معاملة المسيء، والتعامل مع من يُظهر الجفاء بكامل الرحمة والعدالة، لأن كمال الخلق لا يكمن في الانتقام، بل في العفو عن المسيء، والمبادرة إلى الأفضل. هذه هي روح الإسلام، وهذه هي أخلاق رسول الله ﷺ، الذي لم يعامل أبدًا من أساء إليه إلا بكل رفقٍ وحسنٍ، مستمَدَّة من قلبه الرحيم الذي لا يملّ ولا يتوقف عن بذل الحب.

خاتمة عن التعامل مع الناس
نُجدد محبتنا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم), لمعرفة المزيد من المقالات حول السيرة النبوية وقضايا التزكية والأخلاق، يمكنك زيارة موقع الشيخ خلدون.