إن الصبر على البلاء وأجره عند الله من أهم مقامات الإيمان التي لا يبلغها إلا من صَدَق مع الله وسلّم أمره إليه، ورأى في كل ابتلاءٍ نفحةً من رحمة، وتربية من الله لعبده، ورفعة في المقام، وتزكية في الحال. وليس المقصود من الصبر أن يُكتم الألم أو تُخفى المعاناة، بل أن يتحوّل الألم إلى طريق قرب، والمعاناة إلى وسيلة وصل، وهذا لا يتحقق إلا لمن عرف أن الدنيا دار ابتلاء، وأن البلاء ما نزل إلا لحكمة، وما وقع إلا بعلم الله.

معنى الصبر على البلاء

الصبر في اللغة هو الحبس والمنع، وفي الشرع هو حبس النفس على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة. وأما الصبر على البلاء، فهو أن يتلقى العبد ما نزل به من أقدار الله المؤلمة بثبات ويقين ورضا وتسليم، دون جزع أو سخط.

وقد يكون البلاء في الجسد أو في المال أو في الأحباب أو في النفس أو في الأحوال، والعبد الصادق يعلم أن وراء كل بلاء حكمة ورحمة، وأن الله أرحم به من نفسه، وأن البلاء ليس عقوبةً دائمًا، بل قد يكون تربيةً ورفعةً واختبارًا وتمحيصًا.

الصبر خلق الأنبياء والصالحين

لقد كان الصبر خلق الأنبياء والمرسلين، وسمة الأولياء والصديقين، فما من نبي إلا وابتُلي وصبر. فهذا نبي الله أيوب عليه السلام يُبتلى في بدنه وأهله وماله، فيصبر، فيثني الله عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 44].

وكذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لقي من البلاء ما لم يلقه أحد، أوذي في نفسه، وهاجر، وقوتل، وجُوِّع، وكُذِّب، ولكنه صبر صبرًا عظيمًا، حتى قال الله فيه: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127].

أنواع البلاء التي يبتلى بها الإنسان

البلاء ليس مقصورًا على المصائب الظاهرة، بل له وجوه متعددة:

  1. البلاء في النفس: من الأمراض والآلام والاضطرابات.
  2. البلاء في المال: من الفقر والخسارة والضيق.
  3. البلاء في الأهل والأحباب: بالفقد أو الفراق أو المصائب.
  4. البلاء في الدين: وهو أعظمها، بأن يُفتن العبد عن دينه أو يقسو قلبه.
  5. البلاء في العمل والرزق: من تعثر أو شدة أو ظلم.

وكل نوع من هذه الأنواع فيه حكمة إلهية، لا يدركها إلا من أشرق قلبه بنور التوحيد، وأيقن أن الله لا يُقدّر للعبد إلا ما فيه خيره، وإن خفي عليه وجه الحكمة.

فضل الصبر على البلاء في القرآن والسنة

وردت نصوص كثيرة تبين فضل الصبر على البلاء وأجره عند الله، منها:

  • قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، وهذا يدل على عظم الأجر، حتى إنه لا يُوزن ولا يُحد.
  • وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ… وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، فكان البِشر والثناء جزاء الصابرين.
  • وعن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له” [رواه مسلم].

الصبر طريق إلى محبة الله

إن من ثمرات الصبر أن العبد ينال محبة الله تعالى، قال جل وعلا: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]. ومن نال محبة الله فقد نال كل شيء، ومن أحبه الله تولاه، وأكرمه، ورعاه.

ولذلك فإن الصبر على البلاء وأجره عند الله ليس فقط نجاة، بل هو رفعةٌ وسلوكٌ إلى المحبوبية الإلهية، وهو عنوان الصدق في التوحيد.

لماذا يُبتلى الصالحون أكثر؟

قد يتساءل بعض الناس: لماذا يبتلي الله الصالحين؟ والجواب: أن البلاء علامة محبة، قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط” [رواه الترمذي].

فإذا رأيت عبدًا صابرًا محتسبًا، فاعلم أن الله اختاره ليرتقي، وأن البلاء في حقه تطهير ورفع درجات.

الصبر في طريق التزكية والسلوك

الشيخ خلدون، الباحث في علوم التزكية والأخلاق، يؤكد دائمًا أن طريق السالكين إلى الله لا يخلو من ابتلاء، وأن مقام الصبر أحد المقامات الكبرى التي لا بد منها لمن أراد السير في مدارج القرب. وقد بيّن في كتبه ودروسه، أن الصبر ليس فقط احتمالًا، بل هو شهودٌ للجميل خلف الابتلاء، ورضًا خفيٌّ ينبت من نور اليقين.

ولذلك فإن موقعه https://khaldoneg.com/ يقدّم الكثير من المعاني التربوية العميقة التي ترسّخ هذا الفهم عند طلاب العلم والسالكين.

كيف نتربى على الصبر؟

  1. باليقين أن الله رحيم لا يبتلي عبده إلا لحكمة.
  2. بالتأمل في سير الأنبياء والصالحين، وكيف صبروا.
  3. بكثرة الذكر والدعاء، فهو مفتاح السكينة.
  4. بصحبة أهل الله والصالحين الذين يعينون على الثبات.
  5. بالمجاهدة وتهذيب النفس وتعويدها على الاحتمال.

أجر الصابر في الدنيا والآخرة

الصبر لا يضيع أجره، لا في الدنيا ولا في الآخرة. ففي الدنيا يُعوّضه الله بالخير والرضا والسكينة، ويجعل له القبول في الأرض، ويحبه الخلق، ويبارك في عمره وعمله. وفي الآخرة له منازل عظيمة لا ينالها إلا الصابرون.

وقد قال بعض العارفين: “البلاء سوطُ اللهِ الذي يُطهِّر به أحبابه، ويمحو به ذنوبهم، ويُصعّدهم في مدارج القرب”.

الصبر على البلاء وأجره عند الله
الصبر على البلاء وأجره عند الله

خاتمة

إن الصبر على البلاء وأجره عند الله هو من أعظم ما يُقرّب العبد من ربه، ويُعلي منزلته، ويُزكي قلبه. فلنصبر على ما أصابنا، ولنوقن أن الله لا يُضيع أجر الصابرين، وأن مع العسر يُسرًا، وأن الصبر باب الفرج، ومفتاح المحبة، وسرّ القرب من الحبيب سبحانه.

نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصابرين الراضين، وأن يرزقنا الثبات في المحن، والنور في الفتن، والسكينة في الأقدار. آمين.

نُجدد محبتنا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم), لمعرفة المزيد من المقالات حول السيرة النبوية وقضايا التزكية والأخلاق، يمكنك زيارة موقع الشيخ خلدون.