اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم القيامة، وحديث رسول الله عن الشفاعة
روى الإمام البخاري عن مَعْبَدُ بْنُ هِلاَلٍ العَنَزِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أهل البَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إلى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ إليه يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فإذا هُوَ فِي قَصْرِهِ فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى، فأستاذنا، فأذن لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لاَ تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أول مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ هَؤُلاَءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أهل البَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدم، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إبراهيم، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أنا لَهَا، فَأَسْتَاذنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الأن، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إيمان، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أخر لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أو خَرْدَلَةٍ مِنْ إيمان فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أخر لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمان، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ” فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أبي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فأذن لَنَا فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهْ فَحَدَّثْنَاهُ بِالحَدِيثِ، فَانْتَهَى إلى هَذَا المَوْضِعِ، فَقَالَ: هِيهْ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلاَ أدري أَنَسِيَ أم كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا، قُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا فَضَحِكَ، وَقَالَ: خُلِقَ الأنسان عَجُولًا مَا ذَكَرْتُهُ إلا وأنا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ: ” ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أخر لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لاَ آله إلا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ آله إلا اللَّهُ ) . وفي رواية أخرى للبخاري فكل نبي يقول (نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى) .
لكل من يسأل عن شمس الحقيقة المحمدية، تلك التي أضاءت الأكوان ورفعت الستار عن أسرار الوجود، نورٌ لا يشبهه نور، هدايةٌ لا تَضلُّ ولا تنطفئ، إنها الحقيقة التي تكلم بها الأولياء والعارفون بالله. ما أشرفها من شمس وما أعظمها من هداية.
هنا، في هذا الحديث العظيم، يتجلى لنا الدليل القاطع على مكانة هذا النبي المعظم، الرحمة التي وسعت كل شيء، التي شملت جميع العوالم، دون استثناء أو تمييز. لا يمكن أن تتجلى الرحمة بأبهى صورها إلا في شخصه صلى الله عليه وسلم، حيث تشرق السماء وتزهر الأرض بفضله ورحمتِه. ولنقف مع هذا الحديث العظيم لنستخرج منه الكمالات المحمدية التي أودعها النبي صلى الله عليه وسلم وبينها في هذا الحديث.
ففي قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدم، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا) وفي رواية (نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي) الحديث عن يوم القيامة، والموقف الذي يختلج فيه القلب، ويعتصر من هول ما يراه، يأتي حديثه صلى الله عليه وسلم ليطوق الأرواح بنور من رحمةٍ لا مثيل لها. في قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان يوم القيامة، ماج الناس بعضهم في بعض”، يتجلى عمق المشهد الكوني الذي يفوق كل تصوُّر. فالموقف عظيم، والأهوال غير قابلة للقياس، والقلوب تطلب شفاعة، ولا تجد إلا أطياف الأنبياء ينأون بأنفسهم، ويقولون”لَسْتُ لَهَا”. هنا تأتي العظمة المذهلة في كلمات النبي صلى الله عليه وسلم التي تحمل في طياتها أسمى درجات التواضع والعرفان بالله، إذ لا يجرؤ أحدٌ غيره صلى الله عليه وسلم على شفاعة أهل الأرض في ذلك الموقف.
عندما يأتي الناس إلى آبائهم الأوائل، يذكرون الخصائص العظيمة التي خصهم الله بها، معتقدين أنهم بذكر هذه الفضائل، يمكن أن يُرفع عنهم العبء، لكن سرعان ما يكتشفون أنهم أمام عائق من نوع آخر، وهو العارف بالله الذي يفهم أن مقام الشفاعة ليس مقسَّمًا بين الجميع، بل هو مقام واحدٌ خاص، لا يبلغه إلا من كان صاحب مقام المحمود، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
عندما يقول سيدنا آدم عليه السلام: “لَسْتُ هُنَاكُمْ”، فهو لا يرفض الشفاعة فقط، بل هو يعلم علم اليقين أن مقام الشفاعة لا يتوجه إليه إلا من كان أتمَّ الناس قُربًا إلى الله تعالى، وهو صاحب الوجه الأنور الذي تشرق به الأكوان في ذلك اليوم العظيم.
وفي قوله “لست لها” إشارة إلى أن الوالد المغيث هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو الأب الروحي للأكوان وهو صلى الله عليه وسلم القائل (أنا منكم بمنزلة الوالد من ولده) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إبراهيم) مكانة سيدنا إبراهيم عليه السلام، خليل الرحمن تعالى، كان له من المقامات العظمى ما جعل الناس يلجؤون إليه في ذلك الموقف العصيب. لكن إبراهيم عليه السلام، رغم عظمته، أدرك تمامًا أن هذا المقام هو لغيره، لمن هو أعظم منه في ذلك اليوم. فقال بكل تواضعٍ وعرفان: (فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا) وفي رواية (نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي)، ولم يكن هذا القول إلا إشارةً عميقة من سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي عاش في حالة من الإيمان الكامل بالله ورضاه عن قدره، أنه حتى مقام الخلة الذي فاز به لا يكون إلا لمن له مقام المحمود، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي اختصه الله عز وجل بهذا المقام الفريد من نوعه.
يا له من موقف عظيم في يومٍ تَحار فيه العقول، وتتسابق فيه الأرواح، وعندها قال إبراهيم عليه السلام (لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى) كان يدرك علم اليقين أن المقام الذي وصل إليه، ولو كان مقام الخلة الخاص به، إنما هو ظلال النور المحمدي، وهو مقام متوارٍ أمام شمس الحقيقة المحمدية.
هنا، يتجلى لنا مفهوم النيابة الإلهية التي جعلت كل المقامات الأنبياء في ذلك الموقف العظيم ظلالًا، ظلالًا لا تبرز إلا بالنور المحمدي. كل واحد منهم كان له نصيبٌ من الكمالات العظيمة التي شرفه الله تعالى بها، ولكن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) هو المنهل الذي يفيض على الكون كله، وهو الذي يجسد كل مقام من مقامات الأنبياء في أرقى درجات الكمال. ما أعظم مقامه صلى الله عليه وسلم، وما أشرف هذا المقام الذي لا يُنال إلا بنور الله ورحمتِه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ) أرشد الناس إلى سيدنا موسى عليه السلام، الذي فاز بهذا المقام الجليل في الدنيا، مقام “الكلام مع الله”، الذي لا يدانيه شيء من مشاعر الرفعة والمقامات العظمى. “كَلِيمُ اللَّهِ”، تلك الصفة التي شرف بها سيدنا موسى عليه السلام، هي من أرفع درجات القرب، ولكن حتى هذا المقام، رغم عظمته، لا يصلح إلا أن يكون ظلًا أمام شمس الحقيقة المحمدية.
وعندما وصل الناس إلى سيدنا موسى عليه السلام، أدرك تمامًا في قلبه المؤمن، أنه لا مقام له في هذا الموقف العظيم. فقال بكل تواضع:(: لَسْتُ لَهَا) وفي رواية (نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي)، معلنًا عن عجزه أمام المقام المحمود، الذي هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي كلم الله سبحانه وتعالى في مقام قاب قوسين أو أدنى، وهو مقام يظل الإنسان فيه مسبغًا بالنور الإلهي، إذ تعرج الروح إلى الحق سبحانه وتعالى في أقصى درجات الرفعة.
هكذا يظهر لنا أن المقام الذي ظفر به سيدنا موسى عليه السلام، مهما كان عظيماً ورفيعًا، هو ظلٌ من ظل النور المحمدي، لأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم هو من نال من الله تعالى مقام القرب الأعظم الذي لا يبلغ أحد غيره، حتى لو كان صاحب المقامات العليا مثل سيدنا موسى عليه السلام.
إن هذا التواضع الذي عبّر عنه سيدنا موسى عليه السلام، والاعتراف بالفضل لمقام الحبيب صلى الله عليه وسلم، هو شهادة من الأنبياء أنفسهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الكامل في كل مقام، وأنه الذي اجتمع فيه كل الكمالات التي منحها الله لجميع الأنبياء، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ثم قال صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ) في هذه الكلمات يُعلن عظمة المقام الذي شرف الله به سيدنا عيسى عليه السلام، حيث أُطلق عليه “روحُ الله” و”كلمتُه”، وهي صفات ترفع من قدره في العالمين. روحُ الله تدل على نقائه وطهارته، وكذلك كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء عليه السلام، فكان وُجودُه معجزة في ذاته، لكن مع كل هذه العظمة، يبقى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الروح الأسمى، الذي أشرق نورُه على العالمين.
وعندما وصل الناس إلى سيدنا عيسى عليه السلام في هذا الموقف العظيم، قال ( لَسْتُ لَهَا) وفي رواية (نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي)، مُقرًا بعجزه أمام عظمة المقام الذي لا يناسبه سوى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. هذا الاعتراف الصادق من سيدنا عيسى عليه السلام هو إشارة واضحة إلى أن سر الأرواح، الذي أعطى الحياة لكل الكائنات، وسبب بقائها وإمدادها، هو الوجود المحمدي، الذي كان النور الأول في حضرة الله سبحانه وتعالى، والذي منه انبثقت كل الأرواح والكائنات.
إن روح الأرواح وسر بقاء الوجود هي في الحقيقة الروح المحمدية، التي بها وُجدت كل الخلائق، ولذلك نجد أن الأنبياء، بأعظم مقاماتهم، يقرون في هذا الموقف أن المقام الحقيقي في هذا الموقف، والذي لا يستطيع أحد سواه أن يَحمله، هو مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أنا لَهَا، فَأَسْتَاذنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي) في هذه الكلمات المباركة يزداد البيان وضوحًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ” أنا لَهَا”، أي أنه صاحب المقام الذي خصه الله تعالى به من بين خلقه أجمعين، مقام الشفاعة العظمى الذي لا يتقدم عليه أحد، فلا يدخل إلى هذا المقام إلا هو، ولا يرفع همًّا ولا يُنجّي إلا بحوله وقوته. فهذا الحديث هو دليل صريح على المقام المحمود الذي اختص به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعداه غيره من الأنبياء والمرسلين.
إنه المقام المحمود الذي جعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والشفيع المشفع. الشفاعة الكبرى التي بها يُفرّج الكرب ويُنجى الخلائق من العذاب العظيم، فتبدأ الرحمة الإلهية في أن تُنزل الفرج على عباده بفضله وبعونه، ويبدأ الحساب بتيسير الله، بسبب مقامه صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله تعالى به من بين سائر الخلائق.
وفي قوله ﷺ: “أنا لَهَا” كلمة تحمل في طياتها معنى التفرد والانفراد، حيث لا يُلائم هذا المقام إلا صاحب المقام المحمود، ولا يتقدّم هذا المقام إلا من كان صاحب الشأن الأكبر في السماء والأرض، وهو صلى الله عليه وسلم الذي رفعه الله على سائر المخلوقات بأن جعله سببًا للإيجاد ووسيلةً للإمداد، من رحمته يُرحم الوجود، ومن شفاعته يخرج النجاة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم (وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الأن، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ) في هذه الكلمات المباركة يتجلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم صوره وأسمى درجاته، حيث يتواصل الإمداد الرباني له في ذلك الموقف العظيم. إن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف، رغم عظمته، يظل في حالة ترقٍ مستمر، فالله تعالى يُلهمه المحامد، ويزيده إلهامًا، ويعطيه من الفيوضات ما لا يدركه غيره.
وفي ذلك الموقف الرفيع تنزل عليه الإمدادات الإلهية التي تعكس سر عظمة منزلته لدى ربه سبحانه وتعالى. وفي هذا النداء من ربه له: “يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ”، فقد أُعطي صلى الله عليه وسلم من القدرة والسلطان ما ليس لغيره، في يوم تتبدل فيه الموازين وتفتتح أبواب الرحمة على أيدي أشرف الخلائق، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية البخاري عن أبي هريرة أن كل نبي في ذلك الموقف يقول (إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ) فكل الخلائق، حتى أولوا العزم من الرسل، شهدوا غضب الله عز وجل في ذلك الموقف العظيم، إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي لم يذكر هذا الغضب، لأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم هو عين الرحمة، وهو مظهرها الأسمى في ذلك الموقف، وقد تجلت رحمة الله تعالى من خلاله في أسمى صورها.
عندما سجد الرحمة للعالمين تحت العرش، اختفت جميع آثار الغضب، فكان سجوده صلى الله عليه وسلم هو السبب في تبدد الغضب، فبذلك فاضت الرحمة على كل الخلق، وظهرت بركة تلك الرحمة في جميع المخلوقات.
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في تلك اللحظات، كان الواسطة العظمى بين الرحمة الإلهية والخلق، وفي ذلك السجود العظيم كان نهاية الغضب وابتداء الرحمة التي أذِن الله تعالى أن تجري عبر نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا المعنى أشار الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ غَلَبَتْ أَوْ قَالَ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِى فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) ، في تلك اللحظة العظيمة، عندما يسجد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تحت العرش، يتجلى المعنى الأعظم للرحمة، حيث تسبق الرحمة الغضب، كما هو الحال في حقيقة سرِّه صلى الله عليه وسلم التي أشار إليها الحديث. ويظهر الجمال الحقيقي في أن رحمة الله غلبت غضبه، وتجلت هذه الرحمة في سجدته صلى الله عليه وسلم..
والنكتة العميقة في ذلك أن الأنبياء عليهم السلام لم يدلوا الناس مباشرة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في بداية هذا المشهد، بل نقلوا الخلق من نبي إلى نبي، وكل واحد منهم أشار إلى غيره، ليظهر مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء. لو قال سيدنا آدم عليه السلام: “اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم”، لربما ظن الناس أن غيره من أولي العزم قادرون على تحمل هذا المقام العظيم، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يظهر أن هذا المقام الرفيع لا يُمكن لأحد غير الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يناله.
وبينما أشار الأنبياء عليهم السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، جميعهم قالوا: “لستُ لها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري”، وهذا بحد ذاته كان إشارة عظيمة إلى أن مكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي التي اختص بها وحده دون غيره، وظل يتجلى فضله، وتظهر عظمته في هذا الموقف المبارك، حيث قال ﷺ: “أنا لها”، فتبين للخلائق جميعاً أن لا أحد غيره هو الذي يستحق الشفاعة العظمى في هذا اليوم العظيم.

حديث رسول الله عن الشفاعة
حديث رسول الله عن الشفاعة

ومن هنا تتضح فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقامه الجليل الذي لا يُضاهى، فقد تقدَّم على جميع الأنبياء في هذه اللحظات الفاصلة، وبذلك تُسلط الأضواء على مكانته السامية، وتظهر عظمته جلية في أعين الناس والملائكة والخلائق كافة، فهذا هو سيد الخلق، الذي لا يوازيه أحد في مقام الشفاعة ولا في الرحمة التي سينشرها الله تعالى من خلاله.

بقلم: فريق عمل موقع الشيخ خلدون
https://khaldoneg.com

error: Content is protected !!