معاملة المسيء والإحسان له هي سرٌّ من أسرار العارفين، ومقامٌ لا يبلغ شأوه إلا من طَهُر قلبه من شوائب النفس، فصار يرى الأقدار في كل شيء، ويتلقى الإساءة كما يتلقى الإحسان، لا عن ضعفٍ ولا تهاون، بل عن شهودٍ لحكمة الله في تدبيره. إن الإحسان لمن أساء إليك لا ينبع من رغبة في الظهور أو طلب مدح الناس، بل هو انعكاسٌ لنقاء داخلي، وفهمٍ عميقٍ لمعاني العبودية، وسلوكٌ تربوي راقٍ يثمر سكينة في القلب ونورًا في الطريق.

البصيرة وراء الأفعال: رؤية العارفين

فالعارف لا يقف عند ظاهر الأفعال، بل ينفذ ببصيرته إلى ما وراءها، فيرى أن كل شيءٍ إنما هو فيضٌ من المشيئة الإلهية، فيقابل الإساءة بإحسان، كما تقابل الأرض الطيبة المطر، فلا تثمر إلا خيرًا. ومن هنا، كانت معاملة المسيء والإحسان له مقامَ الصديقين، ومرتبةَ الذين فَنَوا عن حظوظهم، فعاشوا في رضا الله، لا يُغيّرهم مدحٌ ولا قدح.

الفتح الأكبر: حين لا يبقى في القلب إلا الله

إنه سرٌّ من أسرار الفتح الأكبر، حيث لا يبقى للعبد في قلبه سوى الله، فتزول عنده الفروق بين العطاء والمنع، وبين الجفاء والوصال، فيرى كل ذلك سِيَان، ما دام صادرًا من مشيئة الله. ومن وقف على هذا السر، فاز بنعمة القرب، وسَرت في أقواله وأفعاله أنوار الرحمة، فصار كما قالوا: “عبدًا محضًا، لا يرى إلا الله، ولا يشهد إلا الله، ولا يعمل إلا لله.”

وصية شيخنا محمد الحلّاب في معاملة المخالف

قال شيخ مشايخنا محمد الحلَّاب رضي الله عنه:
“إياك أن تكره مسلما مهما كان عمله واعتقاده، وإذا رأيته مذنبا مرتكبا للكبائر، أو خالف في أمور العقيدة، فنحن نكره الكفر ولا نكره الكافر، نكره المعصية ولا نكره العاصي، نكره الذنب ولا نكره المذنب، ادع له بظهر الغيب بالهداية والصلاح، فهذا فرض عين على كل من أراد الدخول إلى حضرات القرب”.
وهذه من أصول معاملة المسيء والإحسان له في طريق أهل السلوك.

قلوب العارفين لا تعرف الكراهية

هذا مقامُ السالكين إلى الله تعالى، مقامُ العارفين الذين أبصروا بنور الحق، فلم يجعلوا القلوب مستقرًّا للكراهية، بل جعلوها موطنًا للمحبة والرحمة. إنهم شهدوا الناس بعين الفناء، فلم يجدوا إلا رحمة الله عز وجل تحيط بكل شيء. فما عُوقب مذنبٌ أشدَّ من أن يُنسى في غيابة الدعاء، وما رُحِم عبدٌ أكرم من أن يُهدى إليه قلبٌ نقيٌّ يدعو له في الغيب.

القلوب النورانية لا تحتقر أحدًا

فالقلوب التي امتلأت بالأنوار لا تزدري أحدًا، ولا تحتقر مذنبًا، بل تسأل الله له العفو، لأن صاحب هذا القلب يعرف أن الفضل كله لله عز وجل، وأنه لولا ستر الله عز وجل لكان في موضع غيره. ومن أدرك هذا، فقد أُذِن له في القرب، وذاق من لُطْفِ الله ما يجعله لا يرى أحدًا بعيدًا عن رحمة الله، بل يرى الجميع في قبضته، يُدبِّرهم كيف يشاء، فلا ييأس على أحد، ولا يتعاظم على عبدٍ من عباد الله.

خلق محمدي كريم: وجه من وجوه الوراثة

قال الشيخ حسين الحلَّاب رضي الله عنه:
الإحسان أن تحسن لمن أساء إليك. ولا يركب السالك سفينة السلوك التي تصل به إلى سواحل الواصلين ما لم يتحقق بهذا المقام. فهذا خلق محمدي كريم، من تحقق به نال وجها من وجوه الوراثة المحمدية. ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أُسوة حسنة. إذ قال لمن ضربوه، وطردوه، وحاربوه، “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وهذا هو أسمى صور معاملة المسيء والإحسان له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإساءة امتحان للحب لا ميدان للانتقام

من ذاق هذه المرتبة، لم يعد يرى في الإساءة إلا امتحانًا للحب، واختبارًا للصدق، وكشفًا لمقدار القرب من الحضرة الإلهية.
إنها بوابة الدخول إلى سر “عفوتُ عنهم فاعفُ عنهم”، ومفتاح السير في مدارج الصديقين. فكما قال شيخنا، من لم يتحقق بهذا المقام، لم يركب سفينة السلوك، بل بقي على شاطئ الأهواء، لا يدري كيف يعبر إلى مقام المحبين.

افهم دوافع الإساءة قبل أن ترد

وقال رضي الله عنه:
“إذا وصلتك إساءة من شخص لم تتعود الإساءة منه فاصبر. ولا ترد الإساءة بالإساءة. وانظر حاله فلربما قهره ظرف وأجبره على الإساءة إليك، فساعده. واقبل عذره.”
وهذا لبّ معاملة المسيء والإحسان له، حين يكون الإحسان علاجًا للقلوب المثقلة بالألم.

الإساءة توقظ الرحمة لا الأحقاد

إنه نظر العارفين الذين لا يقفون عند ظاهر الأفعال، بل يغوصون في بواطن الأحوال. فالإساءة عندهم لا تثير الأحقاد، بل توقظ الرحمة. من سقى روحه بكأس الصفح، لم يعد يرد على الإساءة بمثلها، بل يرد عليها بمدد من الحلم، ويرى المسيء لا كخصم، بل كمحتاجٍ إلى دعائه، وكعليلٍ يحتاج إلى دواء العفو.

معاملة المسيء والإحسان له
معاملة المسيء والإحسان له

الإحسان طريق الهداية

وقال رضي الله عنه:
الإحسان إلى المسيء أبلغ من ألف نصيحة وموعظة له. فالإحسان المتكرر للمسيء أفضل الطرق لرده عن إساءته وهدايته.
وهذه خلاصة معاملة المسيء والإحسان له كما علّمنا الكبار من أهل الله، وكما عاشها الأنبياء والصديقون.

بقلم: فريق عمل موقع الشيخ خلدون
https://khaldoneg.com

error: Content is protected !!