الفناء لغة: هو مصدر فنى يفني فناء، إذا اضمحل وتلاشى، وعُدم. وقد يطلق على ما على ما تلاشت قواه، وأوصافه مع بقاء عينه.

الفناء اصطلاحا:

الفناء له معنيان:
الأول: أخلاقي عام يتحقق بفناء الصفات المذمومة مما يدل ضمنا على الاتصاف بالصفات المحمودة، والبقاء فيها، من خلال المجاهدة والرياضة.
والثاني: يتمثل بفناء الصوفي عن نفسه، وعن الإحساس بالغير عبر الاستغراق التام في الله سبحانه، والتحقق في البقاء في وجود الحق حالا وشهوداً وهو ما يُعبر عنه بالفناء الذاتي. ولكي يتحقق السالك فناءه الذاتي لابد من تحققه أولا بالفناء الأخلاقي.
وقال القشيري في الرسالة: ” الفناء سقوط الأوصاف المذمومة، والبقاء قيام الأوصاف المحمودة، وهو درجات: فالأول: الفناء عن نفسه وصفاته وبقائه بصفات الحق، ثم فناؤه عن صفات الحق بشهوده الحق، ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق”.
وذكر ابن تيمية في (مجموع الفتاوى، 2/314.) أنواعا من الفناء:
فأما الأول: للكاملين نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، فهو الفناء عن إرادة ما سوى اللّه، بحيث لا يحب إلا اللّه، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال: أريد ألا أريد إلا ما يريد. أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده اللّه ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه اللّه كالملائكة والأنبياء والصالحين. وهذا معنى قولهم في قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] قالوا: هو السليم مما سوى اللّه، أو مما سوى عبادة اللّه، أو مما سوى إرادة اللّه، أو مما سوى محبة اللّه، فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم، هو أول الإسلام وآخره. وباطن الدين وظاهره.
وأما النوع الثاني: للقاصدين من الأولياء والصالحين، فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر اللّه وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير اللّه، بل ولا يشعرون، كما قيل في قوله: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ [القصص: 10]، قالوا: فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف. وإما رجاء يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره.
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها. وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر: أن رجلًا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني.
أنواع الفناء:
1- فناء النفس: هي مرحلة وصول السالك إلى النفس الراضية المرضية الكاملة، فيفنى فناء كاملا بوصول النفس إلى مرتبة الشهود الحق بالحق.
وفي هذا النوع قال سيد الطائفة الجنيد :هو ذهاب القلب عن حس المحسوسات بمشاهدة ما شاهد ثم يذهب عن ذهابه ،فليس شيء يوجد ،ولا يحس بشيء يفقد .
فالسالك هنا يفني تفكيره في الموضوع حتى يصير القلب متأهباً للامتلاء بالمحبوب ولا شيء غير ذلك.
وقصة سيدنا يوسف  خير مثال على الفناء النفسي، فقد قطع النسوة أيديهن دون الشعور بالألم، ففنوا عن الألم بمشاهدة المحبوب؛ وذلك للاستغراق الكامل في مشاهدة يوسف  لدرجة غيبة النسوة عن كل شيء إلا يوسف، وهذه غيبة المحب في محبه.
2- الفناء الأخلاقي: ويتحقق بالتخلي والتحلي، التخلي عن كل خلق دني، يهبط بالنفس، إلى مرابط الدواب.
والتحلي بكل خلق سني، يصل من خلاله إلى أعلى مقامات القرب والرضا.
قال الجرجاني الفناء فناءان أحدهما ذوقي، والأخر خُلقي، فالذوقي هو عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق. والخُلقي هو سقوط أوصافه المذمومة، واستبدالها بالأوصاف المحمودة.
درجات الفناء:
للفناء درجات ثلاث: فإذا فنى العبد عن صفاته البشرية، وتخلق بصفات الإلوهية سمى ذلك تخلقاً. وإن فنى عن ذاته وتحقق بوحدته مع الحق عز وجل سمى ذلك تحققاً. وإن بقى بعد الفناء، وعرف لا وجود له إلا بالله تعالى، وحصل مقام القرب سمى ذلك تعلقاً.
ويذكر القشيري ثلاث مراتب:
1- فناء الصوفي عن نفسه، وصفاتها بالبقاء بصفات الحق وهي أن تفنى صفاته الذميمة، ويتصف بصفات الحق تعالى. أي كون عبدا ربانياً في علاقته بالناس، وفي حرصه على علاقته بربه من طاعة لأمره والانتهاء عند نهيه.
2- الفناء عن صفات الحق بشهود الحق: وهي أن يشهد الله بقلبه، وفق ما أخبر عنه نفسه، وما أخبر به رسوله عنه.
الفناء عن شهود الحق بالاستهلاك في وجود الحق وهو عدم شعوره بوجود نفسه فتنتابه حالة من الغيبة، والسكر.
هذا مقام الفناء، حيث إنَّ الإنسان يصل إلى مرحلة من كمال الشهود فيغيب عن كل موجود من كمال معرفته بربه، لأن كل ما سوى الله إذا حققته تجده سراباً، وليس له وجود بذاته فالوجود مستمد من الله. وهذا المقام الذي وصل إليه سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه عندما عذبه المشركون فكان يقول: أحد أحد أحد أحد، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يمر عليه ويُسلم عليه فلا يراه ولا يسمعه وهو يُعذب ، وكأن الله قد أفناه واوصله إلى هذا المقام الذي لا يرى فيه مع الله شيء ولا حتى رسول الله ولا حتى من يعذبونه ولا يستشعر شيء؛ لأنهم فهموا معنى قوله تعالى (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:150].
يقول ابن عجيبة في (البحر المديد ج1ص182.) “ومن حيث خرجت أيها العارف فولّ وجهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر:
ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطل … وكل نعيم لا مَحَالَةَ زائلُ
وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل:
يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي … إذا وقَفْتُ أصَلِّي
جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي … إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي
فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي .
وهذا هو مقام الإحسان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عندما سأله عن الإحسان فقال ” أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ”.

الفناء
الفناء

بقلم: فريق عمل موقع الشيخ خلدون
https://khaldoneg.com

error: Content is protected !!