إن “معاملة المسيء والإحسان له في طريق الصوفية” ليست مجرد سلوك تربوي أو خلق اجتماعي، بل هي مقام روحي رفيع لا يصله إلا من صفا قلبه وتهذب باطنه. فالمتصوفة يرون أن الإحسان إلى من أساء ليس ضعفًا ولا استسلامًا، بل هو من تمام التحقق بمراتب التزكية والعبودية، وامتثال لما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من هديٍ ونورٍ ورحمةٍ للعالمين.
في هذه المقالة، نستعرض المفهوم الصوفي لمعالجة الإساءة، ونتأمل كيف تعامل السالكون إلى الله مع الأذى والمسيئين، مستشهدين بما أثر عن مشايخ الطرق الصوفية، من مصر والعراق وغيرها من البلاد، ممن تتلمذ الشيخ خلدون الهيتي القادري على أيديهم، وممن نقل عنهم مناهج العارفين بتبسيط وروحانية تصلح لكل باحث عن الحق.
ولأن موقع الشيخ خلدون متخصص في علوم التزكية والتربية الروحية، فسنربط المفاهيم النظرية بثمارها العملية التي تنعكس على حياة الفرد وسلوكه واطمئنان قلبه.
أولًا: الإحسان مقام الصديقين
قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهذه الآية الكريمة جعلت من العفو والإحسان ذروةً من ذرى الإيمان. وعبارات الصوفية عن هذا المعنى كثيرة، فهم يرون أن معاملة المسيء والإحسان له هي برهان صفاء الباطن، وعلوّ النفس عن الحظوظ.
فمن خالط الناس، ولا يُعاملهم بردّ السيئة بمثلها، بل يردها بالحسنى، يكون قد تخلق بخلق النبوة، وتأدب بأدب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال لأهل مكة بعد ما أخرجوه وآذوه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ثانيًا: كيف فهم الصوفية مقام الإحسان للمسيء؟
رأى مشايخ التصوف أن الإساءة امتحان إلهي يكشف درجة اليقين في قلب السالك. فالسالك إنما يتحقق بالمقامات من خلال البلاء لا من خلال الرخاء، ومن أهم هذه البلاءات أن يُسيء إليه أحدهم ظلمًا وعدوانًا، فهنا يظهر معدن النفس.
يروي أهل التصوف عن الإمام الجنيد أنه قال: “من عرف الله لم يتأذّ من خلقه”، أي أن العارف يرى كل تصرفٍ صادرًا عن تقدير الله، فيسلّم قلبه ولا ينفعل غضبًا ولا ينتقم، بل يعامل الجميع برحمةٍ وستر.
ثالثًا: لمحات من حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو القدوة الكاملة في معاملة المسيء والإحسان له. فقد آذاه قومه، ووضعوا الشوك في طريقه، ورمَوه بالحجارة، واتّهموه بالكذب والسحر، ومع ذلك لم يُعرف عنه أنه دعا عليهم دعاء سخط أو انتقام.
بل لما سأله جبريل عليه السلام إن أراد أن يُطبق عليهم الأخشبين قال: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا”. هذه هي مدرسة النبوة، التي تأسس عليها طريق الصوفية في الإحسان لمن أساء.
رابعًا: لماذا يحسن الصوفي للمسيء؟
لأن الصوفي يرى أن الله هو المدبّر، وأن المسيء ما كان له أن يُسيء إلا بإذن الله، فهو وسيلةٌ للترقية لا للانتقام. كما أن الإحسان للمسيء تطهيرٌ للنفس من الكبر، ومن ظنّ الفضل على الناس.
وقد قال الشيخ حسين الحلّاب رضي الله عنه: “الإحسان إلى المسيء أبلغ في تهذيبه من ألف موعظة، ومن لم يُجرب حلاوة العفو، بقي في سجون الغضب طول حياته”.
خامسًا: ثمرات معاملة المسيء بالإحسان
- طمأنينة القلب: فالعفو يريح النفس، ويحررها من ثقل الكراهية.
- ارتفاع المقام عند الله: لأن الله يحب المحسنين، كما وعد في القرآن.
- تأثير تربوي على المسيء: فقد ينقلب المسيء نادمًا معتذرًا.
- اكتساب الهيبة والوقار: فإن الناس تنظر إلى من يعفو نظرة تقدير واحترام.
سادسًا: أقوال مشايخ الطريق في الإحسان للمسيء
قال الشيخ محمد الحلّاب رضي الله عنه: “إذا رأيتَ من أساء إليك، فاعلم أنه مبتلى، يحتاج إلى دعائك لا إلى انتقامك”.
وقال الشيخ حسين الحلّاب رضي الله عنه: “القلوب الكبيرة لا تخزن الحقد، لأنها مشغولة بمحبة الله، ومن امتلأ قلبه بالنور لا يبقي فيه مكان للغضب”.
سابعًا: خطوات عملية لتطبيق هذا المقام
- استحضار الأجر عند الله.
- ذكر مواقف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع المسيئين.
- الدعاء للمسيء بظهر الغيب.
- التذكير بالنفس: لولا فضل الله، لكنت أنت المسيء.
- الصحبة الصالحة: صحبة المحبين تعين على هذا المقام.
خاتمة
“معاملة المسيء والإحسان له في طريق الصوفية” ليست مثالية مستحيلة، بل هي مقام واقعي وعملي، بلغَه الصالحون وسار عليه المحبون. وهو طريق لا يعرفه إلا من عرف نفسه، وربَّه، وذَاق لذة العفو كما ذاق لذة الصلاة.
فمن أراد الدخول في حضرة التزكية، فليبدأ بالإحسان إلى من ظلمه، وسيرى كيف ينقلب ظلمه نورًا، ويصير ألمه أجرًا، وكيف تنفتح له أبواب الفضل، واحدةً تلو الأخرى، حتى يكون من المحسنين.
نُجدد محبتنا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم), لمعرفة المزيد من المقالات حول السيرة النبوية وقضايا التزكية والأخلاق، يمكنك زيارة موقع الشيخ خلدون.